mercredi 31 mars 2010

جَـِدّدْ أيـّامك و زيّنها(2)
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
إن إرادة الحياة الكريمة اللائقة بنا، كمُكلفين وعن الله في عمارة الأرض مُسْتَخلـَفِين، تفرض علينا كدحا نحو الله مستمرا ، وتزكية للنفس وجهادا ميدانيّا متواصلا. ومن أسمى سمات التجديد ومظاهر الزينة:
تقوى الله تعالى والتوكل عليه :
يقول الله تعالى : ( بلى مَنْ أوفى بعهده واتَّقى فإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقِينَ )(1) فتقوى الله شرط أساسي من شروط السّعادة في الدنيا و النجاة في الآخرة . فلا خلاف بين علماء الإسلام ،الأولين و الآخرين ، أن تقوى الله هي أصل كل نجاح وأساس كل تجديد وعماد كل زينة مشروعة. وهذا ما تؤكده نصوص الوحي المعصوم قطعيّ الدّلالة و الورود، كتاب الله و سنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم بشكل واضح وصريح. فيا مَنْ أردت الإصلاح و تزكية النفس،إن كنتَ جادًّا مع نفسك و مخلصا مع ربّكَ فلا تتمنى على الله الأماني وأنت قابع في بيتك و مستقيل من الحياة لا تحرك ساكنا ولا تسعي في الأرض بالعمارة و الإصلاح و ترسيخ المعروف وتغيير المنكر. فلا تترك أيّامك المعدودة تمرُّ أمام ناظِرَيْكَ مرَّ السّحاب وأنت ساه وغافل دون أن تكسب فيها نصيبا وافرا من تقوى الله تعالى. هل لاعلمت أنّ رسول الله قد سُئل عن أكثر ما يُدخِلُ النّاس الجنـّة ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( تقوى الله و حُسْن ُ الخُلـُقُ )(2). فتقوى الله عِزّة ٌ وكرامة ٌ و رِفْعَة ٌ عِندَ الله ( ولله العِزَّة ُ ولرسولِهِ وللمؤمنين ) . فهي فلاح في الدُّنيا و نجاة في الآخرة. يقول تعالى في حقِّ المتقّين ( ثُمَّ نُنـَّجـِي الـّذين اتـّقوا )، وقد فسّر رسول الله هذه الآية بقوله :( مِنْ شـُبُهاتِ الدّنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة ). وعن أبي ذرٍّ قال: قُلْتُ يا رسول الله أوصني ــ فقال صلى الله عليه و سلّم : ( أوصيك بتقوى الله فإنّها رأسُ الأمر كلّه ) (3) و قال الواحدي : ( أي يُسَهِّلْ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيا و الآخِرَةِ ) . قال رسول الله صلي الله عليه و سلم ( أيُّهَا النـّاسُ اتخذوا تقوى الله تجارة يأتيكم الرّزقُ بلا بضاعة و لا تجارة ) ثـُمَّ قَرأ ( و مَنْ يتّقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (4) فيُبارِكْ لهُ في رزقه( 5) و ينميه. و قال الجوزي رحمه الله : ( كان شيخ يدور في المجالس و يقولُ : مَنْ سرَّهُ أن تدوم له العافية فليتَّقِ الله ربَّهُ )( 6)
فالتقوى تتضمن أصول الإسلام و قواعد الدّين . يقول الله تعالى: ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدًى للمتقين )(7)
ويقول سبحانه: (وسارعوا إلى مغفِرةٍ مِنْ ربِّكمْ و جنـَّة عَرْضـُهَا السّموات والأرض أعِدَّتْ للمُتَّقِينَ )(8)
فتقوى الله أصل عظيم من أصول الإيمان (فالله أحقّ ُ أنْ تخشـَوْهُ إن كُنتم مؤمنين )(9)
و هي أصل عظيم من أصول الإخلاص و التجرد لله ربِّ العالمين (قُلْ إنَّ صَلاَتِي و نـُسُكِي و مَحْيَايَ و مَمَاتِي لله ربِّ العالمين لا شريك له و بذلكَ أمِرْتُ وأنَا أوّلُ المسلمينَ )(10)
وعن أبي موسى الأشعري قال : سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم .....الرّجُلُ يُقَاتِلُ حميَّة ً ، و يقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال عليه الصلاة و السّلام : ( مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )(11 )
وهي أصل عظيم من أصول تزكية النّفس والأخلاق: ( إنّ الّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا و لا تحزنوا، وابشروا بالجنّةِ التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة . ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نُزُلا من غَفورٍ رحيمٍ )(12)
وعن أبي ذر بن جندب، وأبي عبدالرحمن بن معاذ رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السَّيئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلقٍٍ حسنٍ )(13) . و عن سفيان بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله قُلْ في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك.قال صلى عليه الصلاة و السّلام :( قل: آمنتُ بالله ثم استقم )(14)
وتقوى الله أصل عظيم من أصول السلوك و العمل الصالح: (مَنْ عَمِلَ صالحا من ذكر وأنثى و هو مؤمِنٌ فـَلـَنـُحْيـِيَنـَّهُ حَيـَاة ً طـَيِّبَةً)(15) ويقول سبحانه (والّذين اهتدوا زادهم هـُدًى و آتاهم تقواهم)(16)
وهي أصل عظيم من أصول الشجاعة والإقدام: ( الّذين قال لهُم النـّاسُ إنَّ النـَّاسَ قدْ جَمَعُوا لَكُم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالُوا حسبنا الله و نعم الوكيل )(17)
فالإسلام عندما تقوى الله عزَّ و جل دون سواه في النفس البشريّة كان قد عالج قضية الجبن والخوف علاجا جذريّا. فالنـّاسُ لا يملكون موتا و لا حياة . فالحياة يمنحها الله و يسلبها الله متى شاء وكيفما شاء و لا أحد يملك أن يُعَقـِّبَ على حكمه تعالى(و ما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذنه كتابا مُؤجَّلا)(18)
وللتقو ى تجليات كثيرة ،لا يحصيها عدّا إلا الله سبحانه،تشمل حياتنا في الدنيا والآخرة، وتمسح كل مساحات عملنا ونشاطنا الروحي و الزّمني،فالعدل بين النّاس مثلا هو من التقوى( اعدلوا هو أقرب للتقوى )(19)، والعفو عن النّاس من التقوى (وأن تعفوا أقرب للتقوى)( 20) ، والوفاء بالعهد من التقوى (بلى من أوفى بعهده و اتقى فإنّ الله يحبُّ المتقين )(21 ). فتقوى الله تتناول العقائد، والعبادات، والآداب و سائر الأعمال الصالحة. ولمّا كانت التقوى جماع كل برٍّ وأصل كل خير سواء للأفراد أو الجماعات أو الشعوب، كانت خير ما يتسلّح به المؤمن ويستعين في حياته في حياته القصيرة ( و تزوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التقوى )(22). يقول تعالى (و لو أنّ أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض )(23). وممّا لا شك فيه أنه من أعظم مظاهر التقوى و تجليّاتها في حياة الفرد المؤمن بالله الإيمان بقضاء الله و قدره وشكره و التوكل عليه سبحانه، وهذا ما سنحاول توضيحه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
الثلاثاء 30مارس2010 مصطفى عبدالله ونيسي/باريس

الهوامش:
1 ـ آل عمران /76
2 ـ رواه الترمذي و قال حديث حسن صحيح
3 ـ رواه ابن حبّان في صحيحه و قال صحيح الإسناد
4 ـ الطلاق/2 ـ3
5 ـ أبو عبدالله الوصابي الحبشي : البركة في فضل السعي و الحركة ص 71
6 ـ نفس المرجع ص 71
7 ـ البقرة 1 ـ 2
8 ـ آل عمران/133
9 ـ التوبة /13
10 ـ الأنعام /162 ـ 163
11 ـ البخاري و مسلم
12 ـ فصلت / 30 ـ 31 ـ 32
13 ـ رواه الترمذي و قال حديث حسن و في بعض النسخ حسن صحيح
14 ـ رواه مسلم
15 ـ النحل/
16 ـ محمد /17
17 و 18 آل عمران 172 و 145
19 ـ المائدة / 8
20 ـ البقرة / 238
21 ـ آل عمران 76
22) البقرة / 197
23) الأعراف / 96

جَـِدّدْ أيـّامك و زيّنها(2)
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
إن إرادة الحياة الكريمة اللائقة بنا، كمُكلفين وعن الله في عمارة الأرض مُسْتَخلـَفِين، تفرض علينا كدحا نحو الله مستمرا ، وتزكية للنفس وجهادا ميدانيّا متواصلا. ومن أسمى سمات التجديد ومظاهر الزينة:
تقوى الله تعالى والتوكل عليه :
يقول الله تعالى : ( بلى مَنْ أوفى بعهده واتَّقى فإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقِينَ )(1) فتقوى الله شرط أساسي من شروط السّعادة في الدنيا و النجاة في الآخرة . فلا خلاف بين علماء الإسلام ،الأولين و الآخرين ، أن تقوى الله هي أصل كل نجاح وأساس كل تجديد وعماد كل زينة مشروعة. وهذا ما تؤكده نصوص الوحي المعصوم قطعيّ الدّلالة و الورود، كتاب الله و سنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم بشكل واضح وصريح. فيا مَنْ أردت الإصلاح و تزكية النفس،إن كنتَ جادًّا مع نفسك و مخلصا مع ربّكَ فلا تتمنى على الله الأماني وأنت قابع في بيتك و مستقيل من الحياة لا تحرك ساكنا ولا تسعي في الأرض بالعمارة و الإصلاح و ترسيخ المعروف وتغيير المنكر. فلا تترك أيّامك المعدودة تمرُّ أمام ناظِرَيْكَ مرَّ السّحاب وأنت ساه وغافل دون أن تكسب فيها نصيبا وافرا من تقوى الله تعالى. هل لاعلمت أنّ رسول الله قد سُئل عن أكثر ما يُدخِلُ النّاس الجنـّة ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( تقوى الله و حُسْن ُ الخُلـُقُ )(2). فتقوى الله عِزّة ٌ وكرامة ٌ و رِفْعَة ٌ عِندَ الله ( ولله العِزَّة ُ ولرسولِهِ وللمؤمنين ) . فهي فلاح في الدُّنيا و نجاة في الآخرة. يقول تعالى في حقِّ المتقّين ( ثُمَّ نُنـَّجـِي الـّذين اتـّقوا )، وقد فسّر رسول الله هذه الآية بقوله :( مِنْ شـُبُهاتِ الدّنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة ). وعن أبي ذرٍّ قال: قُلْتُ يا رسول الله أوصني ــ فقال صلى الله عليه و سلّم : ( أوصيك بتقوى الله فإنّها رأسُ الأمر كلّه ) (3) و قال الواحدي : ( أي يُسَهِّلْ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيا و الآخِرَةِ ) . قال رسول الله صلي الله عليه و سلم ( أيُّهَا النـّاسُ اتخذوا تقوى الله تجارة يأتيكم الرّزقُ بلا بضاعة و لا تجارة ) ثـُمَّ قَرأ ( و مَنْ يتّقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (4) فيُبارِكْ لهُ في رزقه( 5) و ينميه. و قال الجوزي رحمه الله : ( كان شيخ يدور في المجالس و يقولُ : مَنْ سرَّهُ أن تدوم له العافية فليتَّقِ الله ربَّهُ )( 6)
فالتقوى تتضمن أصول الإسلام و قواعد الدّين . يقول الله تعالى: ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدًى للمتقين )(7)
ويقول سبحانه: (وسارعوا إلى مغفِرةٍ مِنْ ربِّكمْ و جنـَّة عَرْضـُهَا السّموات والأرض أعِدَّتْ للمُتَّقِينَ )(8)
فتقوى الله أصل عظيم من أصول الإيمان (فالله أحقّ ُ أنْ تخشـَوْهُ إن كُنتم مؤمنين )(9)
و هي أصل عظيم من أصول الإخلاص و التجرد لله ربِّ العالمين (قُلْ إنَّ صَلاَتِي و نـُسُكِي و مَحْيَايَ و مَمَاتِي لله ربِّ العالمين لا شريك له و بذلكَ أمِرْتُ وأنَا أوّلُ المسلمينَ )(10)
وعن أبي موسى الأشعري قال : سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم .....الرّجُلُ يُقَاتِلُ حميَّة ً ، و يقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال عليه الصلاة و السّلام : ( مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )(11 )
وهي أصل عظيم من أصول تزكية النّفس والأخلاق: ( إنّ الّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا و لا تحزنوا، وابشروا بالجنّةِ التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة . ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نُزُلا من غَفورٍ رحيمٍ )(12)
وعن أبي ذر بن جندب، وأبي عبدالرحمن بن معاذ رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السَّيئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلقٍٍ حسنٍ )(13) . و عن سفيان بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله قُلْ في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك.قال صلى عليه الصلاة و السّلام :( قل: آمنتُ بالله ثم استقم )(14)
وتقوى الله أصل عظيم من أصول السلوك و العمل الصالح: (مَنْ عَمِلَ صالحا من ذكر وأنثى و هو مؤمِنٌ فـَلـَنـُحْيـِيَنـَّهُ حَيـَاة ً طـَيِّبَةً)(15) ويقول سبحانه (والّذين اهتدوا زادهم هـُدًى و آتاهم تقواهم)(16)
وهي أصل عظيم من أصول الشجاعة والإقدام: ( الّذين قال لهُم النـّاسُ إنَّ النـَّاسَ قدْ جَمَعُوا لَكُم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالُوا حسبنا الله و نعم الوكيل )(17)
فالإسلام عندما تقوى الله عزَّ و جل دون سواه في النفس البشريّة كان قد عالج قضية الجبن والخوف علاجا جذريّا. فالنـّاسُ لا يملكون موتا و لا حياة . فالحياة يمنحها الله و يسلبها الله متى شاء وكيفما شاء و لا أحد يملك أن يُعَقـِّبَ على حكمه تعالى(و ما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذنه كتابا مُؤجَّلا)(18)
وللتقو ى تجليات كثيرة ،لا يحصيها عدّا إلا الله سبحانه،تشمل حياتنا في الدنيا والآخرة، وتمسح كل مساحات عملنا ونشاطنا الروحي و الزّمني،فالعدل بين النّاس مثلا هو من التقوى( اعدلوا هو أقرب للتقوى )(19)، والعفو عن النّاس من التقوى (وأن تعفوا أقرب للتقوى)( 20) ، والوفاء بالعهد من التقوى (بلى من أوفى بعهده و اتقى فإنّ الله يحبُّ المتقين )(21 ). فتقوى الله تتناول العقائد، والعبادات، والآداب و سائر الأعمال الصالحة. ولمّا كانت التقوى جماع كل برٍّ وأصل كل خير سواء للأفراد أو الجماعات أو الشعوب، كانت خير ما يتسلّح به المؤمن ويستعين في حياته في حياته القصيرة ( و تزوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التقوى )(22). يقول تعالى (و لو أنّ أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض )(23). وممّا لا شك فيه أنه من أعظم مظاهر التقوى و تجليّاتها في حياة الفرد المؤمن بالله الإيمان بقضاء الله و قدره وشكره و التوكل عليه سبحانه، وهذا ما سنحاول توضيحه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
الثلاثاء 30مارس2010 مصطفى عبدالله ونيسي/باريس

الهوامش:
1 ـ آل عمران /76
2 ـ رواه الترمذي و قال حديث حسن صحيح
3 ـ رواه ابن حبّان في صحيحه و قال صحيح الإسناد
4 ـ الطلاق/2 ـ3
5 ـ أبو عبدالله الوصابي الحبشي : البركة في فضل السعي و الحركة ص 71
6 ـ نفس المرجع ص 71
7 ـ البقرة 1 ـ 2
8 ـ آل عمران/133
9 ـ التوبة /13
10 ـ الأنعام /162 ـ 163
11 ـ البخاري و مسلم
12 ـ فصلت / 30 ـ 31 ـ 32
13 ـ رواه الترمذي و قال حديث حسن و في بعض النسخ حسن صحيح
14 ـ رواه مسلم
15 ـ النحل/
16 ـ محمد /17
17 و 18 آل عمران 172 و 145
19 ـ المائدة / 8
20 ـ البقرة / 238
21 ـ آل عمران 76
22) البقرة / 197
23) الأعراف / 96

جَـِدّدْ أيـّامك و زيّنها(2)
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
إن إرادة الحياة الكريمة اللائقة بنا، كمُكلفين وعن الله في عمارة الأرض مُسْتَخلـَفِين، تفرض علينا كدحا نحو الله مستمرا ، وتزكية للنفس وجهادا ميدانيّا متواصلا. ومن أسمى سمات التجديد ومظاهر الزينة:
تقوى الله تعالى والتوكل عليه :
يقول الله تعالى : ( بلى مَنْ أوفى بعهده واتَّقى فإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقِينَ )(1) فتقوى الله شرط أساسي من شروط السّعادة في الدنيا و النجاة في الآخرة . فلا خلاف بين علماء الإسلام ،الأولين و الآخرين ، أن تقوى الله هي أصل كل نجاح وأساس كل تجديد وعماد كل زينة مشروعة. وهذا ما تؤكده نصوص الوحي المعصوم قطعيّ الدّلالة و الورود، كتاب الله و سنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم بشكل واضح وصريح. فيا مَنْ أردت الإصلاح و تزكية النفس،إن كنتَ جادًّا مع نفسك و مخلصا مع ربّكَ فلا تتمنى على الله الأماني وأنت قابع في بيتك و مستقيل من الحياة لا تحرك ساكنا ولا تسعي في الأرض بالعمارة و الإصلاح و ترسيخ المعروف وتغيير المنكر. فلا تترك أيّامك المعدودة تمرُّ أمام ناظِرَيْكَ مرَّ السّحاب وأنت ساه وغافل دون أن تكسب فيها نصيبا وافرا من تقوى الله تعالى. هل لاعلمت أنّ رسول الله قد سُئل عن أكثر ما يُدخِلُ النّاس الجنـّة ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( تقوى الله و حُسْن ُ الخُلـُقُ )(2). فتقوى الله عِزّة ٌ وكرامة ٌ و رِفْعَة ٌ عِندَ الله ( ولله العِزَّة ُ ولرسولِهِ وللمؤمنين ) . فهي فلاح في الدُّنيا و نجاة في الآخرة. يقول تعالى في حقِّ المتقّين ( ثُمَّ نُنـَّجـِي الـّذين اتـّقوا )، وقد فسّر رسول الله هذه الآية بقوله :( مِنْ شـُبُهاتِ الدّنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة ). وعن أبي ذرٍّ قال: قُلْتُ يا رسول الله أوصني ــ فقال صلى الله عليه و سلّم : ( أوصيك بتقوى الله فإنّها رأسُ الأمر كلّه ) (3) و قال الواحدي : ( أي يُسَهِّلْ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيا و الآخِرَةِ ) . قال رسول الله صلي الله عليه و سلم ( أيُّهَا النـّاسُ اتخذوا تقوى الله تجارة يأتيكم الرّزقُ بلا بضاعة و لا تجارة ) ثـُمَّ قَرأ ( و مَنْ يتّقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (4) فيُبارِكْ لهُ في رزقه( 5) و ينميه. و قال الجوزي رحمه الله : ( كان شيخ يدور في المجالس و يقولُ : مَنْ سرَّهُ أن تدوم له العافية فليتَّقِ الله ربَّهُ )( 6)
فالتقوى تتضمن أصول الإسلام و قواعد الدّين . يقول الله تعالى: ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدًى للمتقين )(7)
ويقول سبحانه: (وسارعوا إلى مغفِرةٍ مِنْ ربِّكمْ و جنـَّة عَرْضـُهَا السّموات والأرض أعِدَّتْ للمُتَّقِينَ )(8)
فتقوى الله أصل عظيم من أصول الإيمان (فالله أحقّ ُ أنْ تخشـَوْهُ إن كُنتم مؤمنين )(9)
و هي أصل عظيم من أصول الإخلاص و التجرد لله ربِّ العالمين (قُلْ إنَّ صَلاَتِي و نـُسُكِي و مَحْيَايَ و مَمَاتِي لله ربِّ العالمين لا شريك له و بذلكَ أمِرْتُ وأنَا أوّلُ المسلمينَ )(10)
وعن أبي موسى الأشعري قال : سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم .....الرّجُلُ يُقَاتِلُ حميَّة ً ، و يقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال عليه الصلاة و السّلام : ( مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )(11 )
وهي أصل عظيم من أصول تزكية النّفس والأخلاق: ( إنّ الّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا و لا تحزنوا، وابشروا بالجنّةِ التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة . ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نُزُلا من غَفورٍ رحيمٍ )(12)
وعن أبي ذر بن جندب، وأبي عبدالرحمن بن معاذ رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السَّيئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلقٍٍ حسنٍ )(13) . و عن سفيان بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله قُلْ في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك.قال صلى عليه الصلاة و السّلام :( قل: آمنتُ بالله ثم استقم )(14)
وتقوى الله أصل عظيم من أصول السلوك و العمل الصالح: (مَنْ عَمِلَ صالحا من ذكر وأنثى و هو مؤمِنٌ فـَلـَنـُحْيـِيَنـَّهُ حَيـَاة ً طـَيِّبَةً)(15) ويقول سبحانه (والّذين اهتدوا زادهم هـُدًى و آتاهم تقواهم)(16)
وهي أصل عظيم من أصول الشجاعة والإقدام: ( الّذين قال لهُم النـّاسُ إنَّ النـَّاسَ قدْ جَمَعُوا لَكُم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالُوا حسبنا الله و نعم الوكيل )(17)
فالإسلام عندما تقوى الله عزَّ و جل دون سواه في النفس البشريّة كان قد عالج قضية الجبن والخوف علاجا جذريّا. فالنـّاسُ لا يملكون موتا و لا حياة . فالحياة يمنحها الله و يسلبها الله متى شاء وكيفما شاء و لا أحد يملك أن يُعَقـِّبَ على حكمه تعالى(و ما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذنه كتابا مُؤجَّلا)(18)
وللتقو ى تجليات كثيرة ،لا يحصيها عدّا إلا الله سبحانه،تشمل حياتنا في الدنيا والآخرة، وتمسح كل مساحات عملنا ونشاطنا الروحي و الزّمني،فالعدل بين النّاس مثلا هو من التقوى( اعدلوا هو أقرب للتقوى )(19)، والعفو عن النّاس من التقوى (وأن تعفوا أقرب للتقوى)( 20) ، والوفاء بالعهد من التقوى (بلى من أوفى بعهده و اتقى فإنّ الله يحبُّ المتقين )(21 ). فتقوى الله تتناول العقائد، والعبادات، والآداب و سائر الأعمال الصالحة. ولمّا كانت التقوى جماع كل برٍّ وأصل كل خير سواء للأفراد أو الجماعات أو الشعوب، كانت خير ما يتسلّح به المؤمن ويستعين في حياته في حياته القصيرة ( و تزوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التقوى )(22). يقول تعالى (و لو أنّ أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض )(23). وممّا لا شك فيه أنه من أعظم مظاهر التقوى و تجليّاتها في حياة الفرد المؤمن بالله الإيمان بقضاء الله و قدره وشكره و التوكل عليه سبحانه، وهذا ما سنحاول توضيحه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
الثلاثاء 30مارس2010 مصطفى عبدالله ونيسي/باريس

الهوامش:
1 ـ آل عمران /76
2 ـ رواه الترمذي و قال حديث حسن صحيح
3 ـ رواه ابن حبّان في صحيحه و قال صحيح الإسناد
4 ـ الطلاق/2 ـ3
5 ـ أبو عبدالله الوصابي الحبشي : البركة في فضل السعي و الحركة ص 71
6 ـ نفس المرجع ص 71
7 ـ البقرة 1 ـ 2
8 ـ آل عمران/133
9 ـ التوبة /13
10 ـ الأنعام /162 ـ 163
11 ـ البخاري و مسلم
12 ـ فصلت / 30 ـ 31 ـ 32
13 ـ رواه الترمذي و قال حديث حسن و في بعض النسخ حسن صحيح
14 ـ رواه مسلم
15 ـ النحل/
16 ـ محمد /17
17 و 18 آل عمران 172 و 145
19 ـ المائدة / 8
20 ـ البقرة / 238
21 ـ آل عمران 76
22) البقرة / 197
23) الأعراف / 96

mercredi 17 mars 2010

بسم الله الرّحمن الرّحيم

جَـدِّدْ حَيَاتَكَ وَ زَيّنْها (1)

أيّها الإنسان الصَّالِحُ المُصْلِحُ ، حياتُكَ في الدنيا مهما طالتْ لا تعدو أن تكون إلاّ أيّاما و لَيَالِيَ معدودات . وهي أيّامٌ قـَصِيرَة ٌ مهما خُيِّلَ إليكَ أنّها طوِيلَة ٌ. أيَّامٌ مَعْدودة ٌ نعيشها في هذه الدُّنيا، ثُمّ نرحلُ عنها لنعود غرباء من جديد كما أتيناها أول مرّة لا زاد لنا إلاّ ما زرعنا و ما قدمنا من عمل صالح وعلم نافع وولد بار، وقد قال صلى الله عليه و سلّم:( كُنْ فِي الدّنْيا كأنّك غريب أو عابرَ سبيلٍ) وكان ابن عُمر يقول : (إذا أمْسَيْتَ فلا تنتظِرالصَّباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، و خُذ ْ مِنْ صِحّتِكَ لِمَرضِكَ، و مِنْ حياتِكَ لموتِكَ)(1) أيّامك هذه لا تتركها تمر أمام نَاظِرَيْكَ مَرَّ السَّحَابِ وأنت غافِلٌ أو مُتمنِيّا على الله الأماني، دونَ أن تستثمرها و تستفيد منها كبير استفادة، لا في حياتك الدنيا ولا بعد مماتك يوم تُبعث الخلائق وتُعرَضُ الأعمال على الله لا تخفى منها خافية. أيّامك زَيِّنْها بكل ما هو جميل و جذّاب. زيِّنْها بالذّوق الرّفيع، و القول الجميل والفعل الحسن. أيّامُك أيّها الإنسان هي مزرعتك في الدُّنيا فلا تتركها بُوَارا. أصلحها وأسقها ولا تتركها بدون زرع مبارك. هي حقلك فاغرسْهُ شجرا مثمرا نافعا. هي حِمَاك الخاص فلا تترك الأعشاب الطفيلية تقترب منه فتُهْلِكُهُ وأنتَ خانع مستسلم. أيّامُكَ هي جسرك الحقيقي ،إن أردت وعزمت واستعنت بالله،إلى جنّة عرضها السّموات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمِعت و لا خطرَ على قَلْبِ بشر لا في الأولين و لا في الآخرين كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلّم.
حياتُك اجعل أكثرها ،إن استطعت ،أيّاما فاضلة و مباركة ( و من يتوكل على فهو حسبه )(2)
أيامك الغالية زيِّنها بكل ما تـُسْتجَـْلَبُ بِهِ السّعادة، و تُسْتَدْفَعُ بِهِ الشّقَاوة في الحياة الدنيا و الآخِرَةِ. وإذا أردت أن تعرف كيف يتحقق ذلك وأنت فعلا جادّ وصادق ومُقبلٌ غير مُدْبرٍ ، فتعال نبحث سوّيا عن هذه الغايات السّاميات والمقامات المنجيّات في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، وفي سنّة المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وفي تجارب الأولين و الآخرين ممن سبقنا من الحكماء و الصالحين. فما خاب من تواضع لله واجتهد في الطاعة و البحث عن الحقيقة، و ما خاب من استشار وتأمل في سنن الأولين للعبرة و الإتعاظ.
وإلى حلقات قادمة نستعرض فيها ، مُسْتَعينين بالله رب العالمين، بعض ما تتحقق به هذه الغايات الصالحات والمقامات المُنْجِيّات لتصحيح النوايا وتعديلها،وتزكية الأيّام وتجديدها،وليس عليك بعد ذلك أن تحزن أو تأسف على ما قد تظّنه قد فاتك منها،فمتاع الدُّنيا قليل والآخرة خيرٌ وأبقى: (وَلاَ تَهِنـُوا و لا تحزنوا وأنتم الأَعْلَوْن َ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنين..) (3) فاجتهِدوا وأدْلِجُوا (وسَارِعوا إلى مغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ و جنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتُ والأرضُ أعِدَّت للمتّقِينَ) (4)
أخبر أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلّم بأربع كلمات هُنَّ إليّ أحبّ ُ من الدّنيا و ما فيها، قال لي يا أبا ذرٍّ: (أحْكمِ السّفينةَ فإنَّ البحر عميق، وآسْتَكثِرِ الزَّاد فإنّ السّفّرَ طَوِيلٌ، و حفِّفْ ظهْرَكَ فإنَّ العَقَبَة َ كؤُودٌ، وأخلِصِ العملَ فإنَّ النَّاقِدَ بَصيرٌ ) رواه الإمام المقدسي.
الثلاثاء17مارس2010
مصطفى ونيسي/ باريس
1) رواه الإمام البخاري
2) سورة الطلاق/ اية13
3) سورة آل عمران/آية 139
4) سورة آل عمران /آية 133

vendredi 12 mars 2010

لا للعداوات والأحقاد

ألا يصح أن نختلف ونبقى إخوانا في الله متحابين ،يحترم بعضنا بعضا، ويُقدر بعضنا بعضا !
النّاس يختلفون في طباعهم و أشكالهم ، وكذلك هم يختلفون في وجهات نظرهم وأذواقهم وقناعاتهم . فالنّاس عند التعامل معهم تجد لهم طباعا مختلفة . هكذا خلقهم الله تعالى. منهم الغضوب .. ومنهم البارد ، منهم الشجاع ومنهم الجبان ، ومنهم الذكي ومنهم الغبي ، منهم المتعلم و الجاهل ...... فكم من ظالم يظن أنّه من أعدل النّاس ، وكم من غبيّ سفيه يرى أنّه حكيم زمانه!! ولنفرض أن أحدا مِمَّنْ تحب قد أخطأ فعلا وجانب الصواب، فنصحته فلم ينتصح ، فهذا الأخ أو المواطن أو الإنسان لا ينبغي أن تنقلب محبتك له بين عشيّة و ضحاها عداوة وحقدا وخُذِ الأمور بأريحية قدر المستطاع،فذلك خير لك في دينك ودُنياك.
لماذا لا ننطلق من مبدأ أنّ معرفتنا ببعضنا ليست كاملة، فنلتمس لبعضنا بعضا الأعذار المناسبة التي تسمح لنا بالتواصل عند الحاجة والضرورة على الأقل.
فأنا شخصيا والذين يُشاطرونني الرأي متيقنون أنّنا لا يمكننا الاستغناء عنكم، أنتم المخالفون لنا في الرّأي والمتحاملون علينا من غير وجه حق في أغلب الأحيان . فأنتم ونحن شركاء في مشروع إصلاحي سياسي مشترك نروم من خلاله عزّة أمتنا وكرامتها و نهضتها الحضارية مهما اختلفنا معكم في تقدير المصلحة الآنية العارضة. إنّا لا نستطيع أن نستغني عنكم مهما كان الخلاف حادّا بيننا . و بناء عليه فإنّه غدا محكوما علينا أن نتعايش سلميا وأن نعرف كيف ندير خلافنا الدّاخلي و نتحكم فيه ليكون مصدرا للثراء وتعدد الخيارات بدل أن يكون مصدرا للخلاف و المنازعات و ذهاب الرّيح. إن الخلاف أمر طبيعي ، ولا ينبغي أن يؤثر سلبا على علاقاتنا الأخوية و الدينية . و المحذور في هذا النطاق هو أن ينقلب هذا الخلاف الذي يسمح به الشرع الحكيم ويُجيزه إلى سبب من أسباب القطيعة وتشتت الصفوف لا قدّر الله تعالى. وعلاجا لهذه الظاهرة التي أحسبها طبيعية يجب علينا أن نبحث جميعا عن الآليات المناسبة لإدارة خلافاتنا وتوظيفها التوظيف الحسن و العقلاني الذي يقوي شوكتنا ويساهم في تطوير مشروعنا الإصلاحي الشامل.
إنّ أيّ تصرف يقوم به أحد النّاس مشهود له بالعدالة قد تكون له خلفيته الخاصة ، وقد يكون هذا الأخير معذورا فيما نأخذه عليه و قد يكون قام به بناء على اجتهاد منه أو بناء على موازنة لتحقيق خير الخيرين أو دفع شرّ الشرّين.
ألم يأتك نبأ ذلك السلطان الذي سجن أحد الأشخاص ظُلما بسبب إنكاره لبعض ما صدر من هذا السلطان، ثُمّ َ حكم عليه بالإعدام . فذهب أحد العلماء ،ــ و قد كان هذا العالم في نفس الوقت صديقا لهذا السجين ، وذا مكانة رفيعة لدى الدولة، ــ يستشفع في هذا السجين الذي ينتظر تنفيذ حكم الإعدام. و قبل السلطان الوساطة بشرط أن يضرب ذلك العالم صديقه عشر جلدات موجعات أمام الملأ. و كان الموقف مُحرجا جدّا ، ولكنّ العالم وافق على ذلك الشرط لأنّ فيه ارتكاب أخف الضررين . وفعلا ضرب صديقه أمام حشد كبير من النّاس، ولكن في المقابل أُطلق سراح المسكين وانتهى كل شيء. و نتيجة لهذه العملية التي لا تليق بمثل هذا العالم في ظاهرها،انبرى النّاس الذين لا يعرفون تفصيلات هذه الحادثة ينتقدون هذا الرجل العالم و يُشهرون به بحجة أنّه ركن إلى الحاكم الظالم وضرب مظلوما و أهانه. أمّا الرّجل المظلوم لمّا فهم الأسباب التي دفعت بصديقه العالم إلى أن يوافق على مثل هذا الموقف الصعب عانقه وأثنى عليه الثناء الحسن.
فالأخبار والشائعات عندما تُنقل إلينا وخاصة إذا ما كانت مُتعلقة بصديق نعرفه فلا بد أن نستوثق منها و نتبينها استجابة لأمر الله أولا وصيانة لأخوتنا الغالية ثانيا: ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) الحجرات/آية6
فجدير بنا أيها المناضلون أن لا ننشر خبرا فيه إساءة لأحد من الناس عموما ولأحد من إخواننا خصوصا قبل أن نسأل أنفسنا عددا من الأسئلة لنتأكد من صحة الخبر و جدوى نشره و إذاعته . وعلى ضوء إجاباتنا نقرر ماذا نفعل .
إننا كدعاة إصلاح سيلحقنا من النّاس أذى كثيرا، فلا بد أن نصبر و نصابر ونتحمل ثقلهم وإساءتهم إلينا وخاصة إذا كانوا من ذوي القربى ، بل علينا أن نعاملهم بلطف ونترفق بهم ، ونحاول قدر المستطاع أن نتجنّب عداواتهم، فالحياة أقصر من أن تشغلنا بكسب عداوات و أحقاد تشغلنا عن أهم شيء وأفضله من أجله خُلقنا ومن أجله كُرمنا تكريما عظيما : ( و ما خلقت الجنّ و الإنس إلاّ ليعبدون ) الذاريات آية 56 ( وما أ ُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء.. ) البينة آية5
مصطفى الونيسي/ باريس

jeudi 4 mars 2010

بسم الله الرحمن الرحيم


الأخوة الأعزاء في كلِّ مكان: السلام عليكم و رحمة الله وبركاته و بعد،ُ لا تزال تفصلنا عن الذكرى السابعة لاغتيال شيخ الشهداء و المجاهدين أحمد يا سين مؤسس حركة حماس الإسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عشرون يوما تقريبا. وبهذه المناسبة الأليمة يسرني أن أعيد نشر هذا المقال الذي حررته سنة 2004 وهو مقال يصور مرارة الاحتلال و العدوان بصفة عامة وأزمة المثقف العربي بصفة خاصة. و لعلم القرّاء فإن لهذا المقال وقع خاص في نفسي وذلك لأني انتهيت من كتابته قبل ساعات معدودات من استشهاد الشيخ. وفي الصباح الباكر من نفس اليوم فـُجع العالم بنبأ هذا الإغتيال الآثم فاكتفيت عند ذلك بالتعلبق على المقال تعليقا لا يتجاوز الصفحة إذ كانت وللأسف هذه العملية النكراء تصديقا لما ورد في المقا ل من معان واحتفظت بذلك مخطوطا عندي كلَّ هذه السنوات منتظرا في كل مرّة هذه الذكرى الأليمة لإعادة نشره على جمهور القرّاء في إحدى المجلات الإلكترونية أو ما يعادلها من نشريات و صحف.

دمتم في حفظ الله تعالى ورعايته
باريس يوم الخميس 4 مارس2010
أخوكم أ.مصطفى عبدالله الونيسي




غربة الإنسان ومولد الذئاب في زمن العولمة


الحيرة و انقلاب الموازين:
لا أخفي على أحد أنني أصبحت في و ضع لا أدري فيه أهُو من حُسن حظّي أم من سُوءه أنني بدأت أدرك بعد هذه السنين الطويلة من المنفى والحياة في عاصمة من أهم عواصم الغرب أننا، كمناضلين و عشاق للحرية، في زمن لا يُسمح لنا فيه بالعيش إلا داخل الغابة التي يُطلقون عليها، تضليلا و مغالطة، حرية السوق والنمو و سعادة الأفراد والشعوب حيث غدت هذه الحرية الموعودة هي حرية أن يلتهم الأقوياء الضعفاء بعد استدراجهم و تجريدهم من كل وسيلة للدفاع عن أنفسهم و كرامتهم. إنه زمن غُربة الإنسان و مولد الذئاب. زمن عُبد فيه المال عبادة، و ما الإنسان فيه إلا سلعة و متاعا، فهو لا يُساوي إلا ما يملك من متاع الدنيا، ولا يحق له أن يملك إلا بقدر ما يساوي في بورصة سوق الذئاب.
زمن يكفي القليل من الذهب فيه ليحوّ ل الأسود إلى أبيض و التقي المجاهد عن شرفه و عزة بلاده إلى مُجرم و إرهابي و الجميل إلى قبيح والبطل إلى خائن والجبان إلى شجاع والفاشل إلى ناجح.....
زمن يُسوى فيه بين الضحية و الجلاًَد و لا حرج. زمن لا مكان فيه لما نُسميه نحنُ العامة من النّاس أخلاقا و فضيلة وأديانا سماوية. زمن اختلت فيه الموازين و انقلبت فيه القيم. إنّها غابة تعيش فيها كلّ المخلوقات إلا الإنسان.غابة يهيمن عليها كلّ ذي ناب من السباع وُيساعده كُلّ ذي مخلب من الطّير، لا مكان فيها للشرفاء ولا خيار لهم إلا المغامرة بحياتهم ومواجهة المتطلعين إلى السلطة والهيمنة على الغابة.
و في لحظة وعي أفرزتها تراكمات أحداث جسام داخل الغابة تساءلت كيف استطعت أن أعيش في غابة تحكمها و تدير شؤونها العّامة و الخاصة سباع ضارية حتّى هذا الوقت؟ تساءلت هل كنت عميلا أم ماذا دهاني وقد كنت أعتقد أنّني شجاع و مناضل حرّ لا يُشق لي غُبار؟
المهم بالنسبة لي أني استيقظت من سُباتي الذي يبدو أنّه قد طال فاستعذت من الوسواس الخنّاس و حمدت اللّه على هذه السلامة و لو كانت وقتيه و حتّى صورية، وشكوته أيضا سوء حظّي أنّني وُلدت في زمن أصبحت فيه هيمنة السباع أمرا واقعا سائلا إياه سبحانه أن يُفرج همي و يجعل لي مخرجا من حيث أعلم أو لا أعلم. ولأنّ الطبع يغلب التطبّع لم أستطع أن أندمج في فصيلة الذئاب رغم المغريات الكثيرة و المتنوعة بل و غمرتني مشاعر و نوازع تحررية مريبة أربكتني فتساءلت لأول مرّة بيني و بين نفسي هل يا تُرى فيه مجا ل والحال هذه للتمرد والمطالبة بالاستقلال للنجاة من بطش الذئاب أم أنّ الاستسلام والاقتناع بأننّي واحد من قطيع الخرفان و ترويض النفس على ذلك أولى، فلا مستقبل لي و لا أمل في الحياة إلا داخل ما يقرره و يحدده واحد من سادة الذئاب.؟
وفي هذه الغابة المترامية الأطراف ذاقت أنفاسي و أُصبت بالإحباط الشديد والتأزم لمّا يئست من الإصلاح من الدّاخل و بالطرق السّلمية والقانونية، بل وأيقنت أنّني إذا ما تماديت في هذا المسار فإنّني سأسير لا محالة بخطى حثيثة نحو الهاوية و الأسر الذي ليس منه فكاك إذا لم أغضب وأتمرد. و عندئذ تحملت مسؤوليتي التاريخية و بدأت التفكير بجدية في كل الطرق و الوسائل و الحيل المناسبة التي يمكن أن تُخفف من روعي و روع من هم على شاكلتي و تُحقق لي الخلاص الفردي و النجاة بجلدي على أقل تقدير.وفي هذا المناخ المشحون الذّي أملته و فرضته السياسات" الذئبية" فكرت أيضا في مستقبل الأجيال القادمة و خاصة منهم الأطفال الرّضع كيف سيكون؟ أليس من حق هؤلاء علينا أن يحلموا بحياة أفضل بعيدا عن هيمنة الذئاب أم هي نهاية التاريخ كما يدّعي بعضهم؟ (1)
ولأننّي مُشاكس ولا أقد ّر العواقب، ولأنني أيضا متفائل جدّا رغم قتامة الواقع واختلال موازين القوى، لم أتوقف عن التفكير في طرق تتناسب و إمكانياتي المتواضعة جدّا جدا للتمرد و العصيان المدني و إعلان الثورة بطريقتي الخاصة. و بينما أنا مُستغرق في التدبير والتقدير و التخطيط، ألهمني الله تعالى في لمحة بصر رُشدي وقذف في قلبي نورا على الطريقة " الغزّالية" أعاد لي بمُقتضاه ثقتي في نفسي وديني و تاريخي المليء بالبطولات و الأمجاد فعند ذلك أيقنت و صدّقت من جديد بأن الحياة خارج زمن الذّئاب ليس فقط هي الأصل و ممكنة بل هي ضرورة وواجب في آن واحد وأنّ الطريق إلى ذلك هو الإيمان الصّادق و الإخلاص و الحب و الوفاء و العمل الجّاد على التغيير والصمود مهما كانت الظروف صعبة، بل أيقنت بالإضافة إلى ما تقدم أنّ هذا الواقع المرضي و الإستثنائ الذي يحاصرنا من كل ناحية ما هو في الحقيقة إلاّ النتيجة الطبيعية لتقصير الإنسان و إهماله لوا جباته الدّينية و الإنسانيّة وانحرافه عن الوظيفة المركزية التي من أجلها خُلق. " أولمّا أصابتكم مُصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم" (2) في هذه اللحظات العصيبة من التفكير أدركت وشعرت بالحاجة الماسة لكل ما يمكن أن يعينني على المقاومة من أجل ممارسة حقي الطبيعي في الحياة الكريمة.وكاستجابة طبيعية لهذا الشعور التفت يمينا وشمالا و حاولت أن أقلب كل النظريات و الفلسفات فلم أجد أفضل ولا أبلغ ولا أوضح من القران الكريم الذّي يُرشدني إلى قوانين النصر والهزيمة و يمدني بالعون المعنوي والنفسي متذكرا قول الله تعالى " إنّ الله لا يُغير ما بقوم حتّى يُغيروا ما بأنفسهم " (3). أضف إلى ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم التفسير العملي لكتاب الله والمصدر الثاني الذي نلتمس فيه ومنه العون والمدد و نقتبس منه الآليات و المضامين والمشاعر السوية والمعنويات المرتفعة لمواجهة التحديات. و بالعودة إلى التاريخ ومُختلف التجارب الإنسانية القديمة و الحديثة وجدت كمّا هائلا من التجارب والدروس في مقاومة معسكرات الذئاب على مر العصور. لقد كلفت نفسي مثل هذا العناء من البحث والتنقيب عن المصادر الحقيقية للقوة استعدادا للمقاومة و الذود عن مدينة الإنسان حتّى لا تلعني و إخواني من بني الإنسان الأجيال القادمة. ولكن في المقابل لا أذيع سرّا عندما أقول أنّ الحياة الحقيقية الجديرة بالشرفاء ليست أمرا ميسورا ولا هي في مُتناول الجميع إذا لم نبذل الجهد الكافي و المطلوب لنكون جديرين بها وإلا فإنّ عالم الذئاب ليس ببعيد عنّا كما يُمكن أن نتصور لأول وهلة، إذ كل واحد منّا قابل لأن ينقلب إلى ذئب إذا لم ينتبه إلى ذلك سواء بصفة كاملة أو جُزئية. وإذا كانت الذئاب لغزا إلى هذا الحد فما هي الحدود الفاصلة بين عالمي الإنسان و الحيوان أي الذئاب؟

الذئب، الرمز و الدلالة:
لا شك أنّ السباع بكل أنواعها كغيرها من المخلوقات، هي من خلق الله، قد خلقها لحكمة يعلمها و يراها. وهي عندما تقتل إنما تفعل ذلك استجابة لحاجة ضرورية وغريزة بيولوجية هي غريزة الجوع. فهي تقتل لتأكل ولا تقتل للتشفي والتلذّذ بالآم الآخرين. وهي أيضا جزء لا يتجزأ من هذا المحيط الذّي نعيش فيه، بل هي ضرورية للحفاظ على البيئة و توازنها.أمّا السباع التي نعني فهي تلك التي قد خلقها الله ابتداء خلقا سوّيا في صورة إنسان، تكريما و تشريفا و تكليفا إلا أنّها أبت إلا أن ترتكس إلى الوحل طواعية بخروجها على النّاموس الالهي العام فقلدت السباع الضّارية في أسوإ طباعها وخصالها ولؤمها: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثمّ رددناه أسفل سافلين... " (4) وذلك بسبب ما ارتكبته من معاص وخروج عمّا أودعه الله في هذا الكون من قوانين: " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضّل سبيلا... " (5) وقد حُذّرنا منذ زمن بعيد من الشّيطان ذئب الإنسان حتى لا يكون مصيرنا كمصير الشّا ة القاصية فينفرد بها الذّئب: " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ من الغنم القاصية، إياكم و الشعاب وعليكم بالعامة و الجماعة والمساجد" (6)

كما أنّ النبيّ صلى الله عليه و سلّم أوصانا بالحذر من كثير من الدّواب و الكواسر و الحشرات لما تُمثله من خطر على حياة النّاس و أمنهم: "خمس من الدّواب لا حرج على من قتلهنّ:الغراب والحدأة والفأرة والعقرب و الكلب العقور(7)"(8) وللذئب صفات يُضرب بها المثل، كُلها تنطبق و زيادة على بعض النّاس، منها الغدر و الخبث والخيانة والجرأة و اليقظة واللؤم وسرعة الجوع... ولذا قالوا قديما: من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم ويُروى أنّ امرأة من بني اسرائيل وجدت ذئبا صغيرا يكاد يموت جوعا و نظرا لقلة معرفتها بطبيعة الذئاب أشفقت عليه المسكينة وأخذته لبيتها و ربته مع شاتها الوحيدة، فكان يشرب من لبنها و يتدثر بصوفها ولمّا كبُر و اشتدّ عُوده قتل الِشّاة و أكلها فقالت المرأة فيه بعد فوات الأوان:
بقرت شُويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا ولد ربيب
غُذّيت بدرها و رُبيت فينا فمن أنبأك أنّ أباك ذئب
إذا كان الطباع طباع سوء فلا أدب يُفيد ولا أديب

ومن عجائب الذئب أنّه لا يأمن لأحد، فشُغلُه الشاغل هو أمنه الخاص أوّلا، ولذا فهو لا ينام إلا بإحدى عينيه و يحرس بالأُخرى. فهو لا يُقيّم من حوله إلاّ من خلال وعلى خلفية أفعاله و خصاله و قد قال فيه احد الشعراء: ينام بإحدى مُقلتيه و يتقي بأُخرى الأعادي، فهو يقظان هاجعُ

ولكن حتّى نكون من أهل القسط ومن الشهداء بالحق فإنّ هذه الكواسر والسباع و ما قد نُطلقه عليها من أوصاف إلاّ أنّها لم تخرج يوما عن مُمارسة دورها المرسوم لها مُسبقا، بل إنّها لمّا طلب منها عُقبة بن نافع أن تخرج من الغابة التي على أنقاضها بنى مدينة القيروان، و جامعها الكبير، لتكون عاصمة ومنطلقا جديدا للفتح الإسلامي في بلاد المغرب، خرجت طواعية و من دون إكراه وهو ما لا يُمكن للسباع الآدمية أن تستوعبه أو تفهمه أو تطيقه. و يكفي أن ننظر إلى شارون و اله وبوش و صحبه وصدّام و زبانيته سابقا و كلّ من كان على شاكلتهم و دينهم، فبماذا يتميز هؤلاء الرهط من السباع الآدمية إذا ما قارنا أفعالهم الإجرامية و العُدوانية بأفعال غيرهم من بقية السباع مُجتمعة. بل إننا عندئذ قد نظلم الذئاب الحقيقية ظلما كبيرا لأنّ الذئاب الرمزية من بني جلدتنا هُمُ أشدّ مكرا و فتكا وبطشا و أكثر قُدرة على الظلم، وهم لا يفعلون ذلك للضرورة و إنّما يفعلون ذلك حبّا للتسلط و الهيمنة و القهر.

المقاومة و إرادة الحياة:
وبناء على ما تقدم فإنّ إرادة الحياة اللائقة بالإنسان السّوي تستدعي منّا قرارا حاسما و عاجلا على المقاومة و التصدي و هي بالتالي لا تحتمل التردد و الخوف و التأجيل، لأنه لولا خوفنا و ترددنا وانغلاقنا و جُبننا ما استطاعت الذئاب في يوم من الأيام أن تبني قصورها و عروشها، وكم نهانا الرسول صلى الله عليه و سلّم وحذرنا من الخوف وحبّ الدنيا و كراهية الموت الشريف وقد كان شعار كثير من أسلافنا المجاهدين"اطلبوا الموت توهب لكم الحياة". وجدير بنا أن ننسج على منوال هؤلاء الكرام إذا ما أردنا الحياة عزيزة و كريمة ليُمارس الإنسان حقه في الحياة كمخلوق جدير بالخلافة و عمارة الأرض بكل حرية و أمان.

إصلاح الغابة أم " أنسنة" السباع:
لقد أدركت أيضا نتيجة لصحوة الضمير هذه، وتراكم التجارب المتعددة و المتنوعة، وإفرازا مُرّا لحياة المنفى و البعد عن الأهل والدّيار أنّ المناضل محكوم، أحب أم كره، بواقع مُعقد و مُركب و لا يمكنه بحال أن يقلب الواقع بفكره و حُسن نواياه لأن الفكر وحده ليس هو الجزء المُحدّد في عملية التغيير والإصلاح. كما أن الغابة لا يُمكن إصلاحها أيضا عن طريق المعجزات والوصفات الجاهزة.
فالإصلاح عملية مُركبة، والمبادئ مهما كانت جميلة لا تُجدي نفعا كبيرا إذا لم تصحبها إرادة قوية وتصميم على الفعل لا حدود له "لقد أرسلنا رُسُلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم النّاس بالقسط و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للنّاس"(9)
فالنجاح ليس هبة تُعطى وإنّما هو كسب مشروط، بالإضافة إلى صحة الفكرة في عُمومها وسلامة القصد والتوكل على الله، بالفعل الجاد والمبادرة والأخذ بأسباب النجاح والنزول إلى الميدان والجهاد بالمال والوقت والنّفس إن لزم الأمر و خاصة في زمن المعارك المفروضة علينا. فإرادة الحياة بطبيعتها لا تحتمل الاستقالة والسلبية والبقاء على الربوة بعيدا عن الصراع والاكتفاء بدور المتفرج الذّي قد لا يتوقف عن لعن الذئاب وأفعالهم و التعلق بالسمّاء وهي بعيدة عنه مكتفيا بالدّعوة إلى الخير وهو لا يدري أنّ السماء لا تُمطر ذهبا ولا فضة. أحسب أننّا مُطالبون أن ننزل إلى الأرض لنثبت عليها أقدامنا و نتعرف على واقعنا من قريب مهما كان حاله ونتفاعل معه سلبا وإيجابا فننحاز إلى الجميل منه أو على الأقل إلى ما هو أقل سوءا و ضررا عند الضرورة والإكراه .لا شك أن الممازجة بين المثال الذي يطمح إليه الإنسان و السمو الذّي بشر به الأنبياء و الحكماء من جهة و التاريخ البشري بمُختلف منعطفاته الحلوة والمرّة من جهة ثانية هو من صلب عمل الإنسان وهو المسؤول الأول عن توجيهه وتوظيفه لخدمة الحضارة الإنسانية. إنني، بعد هذه السنين الطويلة من محاولة السّباحة ضد التيار المفروض علينا في الدّاخل والخارج، أعترف أن هذا الجهد المتعدد المستويات، و أن هذا الأمل في عملية تحرير الإنسان ليس أمرا سهلا بالمرة وأنّ ذلك يتطلب همة عالية كهمة سيّدنا إبراهيم عليه السلام و إيمانا يتجاوز منطقنا البسيط والمحدود و أخلاقياتنا العادية ولكنه رغم ذلك يبقى أمرا ضروريا وقابلا للتحقق في نفس الوقت لأن الله لا يّكلف نفسا إلا وُسعها ولأن الاستطاعة الإنسانية قادرة على تحقيق ذلك. إنه الإيمان با لنهايات السّعيدة التي منها يستمد الإنسان شرعيته و قوامته على سائر المخلوقات.

إرادة الحياة بين البدايات و النهايات:
إنّ البحث عن الوسائل المناسبة لتحقيق تلك النهايات السعيدة هو عملية اجتهادية بشرية بحتة. و من أهم الوسائل و أخطرها تأثيرا على تحقيق هذه النهايات هو ما نُسميه "بالفعل السياسي".فالسياسة وسيلة نوعية و مُتميزة في تقرير مصير الإنسان سلبا و إيجابا. وهو ما فهمه المُتطلعون إلى السلطة في كل زمان ومكان فحرصوا على احتكار هذه الوسيلة ولو عن طريق القتل والإرهاب وسفك الدّماء ولذلك لا نستغرب عندما نسمع هؤلاء ونراهم في إعلامهم مُسخرين كل ثروات الدّولة المادية و المعنوية يرددون صباحا و مساء :"أيها النّاس إنّ السياسة حرام عليكم إلى يوم الدّين، حلال علينا وحدنا معشر السباع، فاجتنبوها إنها ّ رجس من عمل الشيطان و إلا فسيطالكم لا محالة غضبنا وتكونون من الخاسرين."

ولأنّنا طيّبون، وعاطفيون، وخائفون، ومُترددون، كان يؤثر فينا كثيرا هذا القول البليغ، فنُعيد، نحن المُواطنون المُسالمون جدّا، إنتاج هذا الخطاب السديد والكلام الرّشيد بأساليبنا الخاصة مرددين بلا كلل ولا ملل أن السياسة قد ماتت و أنّها رجس من وحي الشيطان وأن اجتنابها قدر المُستطاع خير عند الله مُكتفين بموقع المحكوم فيه إلى الأبد، و نحن والحمد لله راضون ومُقتنعون، لا موقف لنا ولا رأي إلاّ ما يراه ويقرره الحاكم المعصوم الذّي لا ينبغي مُراجعته ولا إدانته إلى يوم الدّين.
ولكن على الطرف الآخر، من هذه الحقيقة التي أرادت السباع أن تُكرسها، نجد إرث الأنبياء والمصلحين يشدّنا إلى الأعلى دائما ويمنعنا من السقوط وينير لنا الطريق و يلقننا حقائق أخرى لا قبل للسباع بها.لقد تعلمنا من هؤلاء أنّ الحياة في عالمنا البشري ليست حقيقة مُطلقة و مؤكدة و مكتملة الصنع و أنّ الله أوجب علينا أن نُنجزها بما يتماشى و يخدم مصلحة الإنسان و ازدهاره، وتحقيق ذلك لا يُمكن إلا عن طريق الإرادة العامة و الشعور المشترك بالمسؤولية الجماعية التّي تمُدُّنا بالإحساس المُرهف و تُلهب فينا مشاعر الرّحمة و الأخوة والتعاطف والتعاون والغيرة على الضعيف والمظلوم، فنجعل من كل واحد منّا مسؤولا عن كل الآخرين"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". فالسياسة على ضوء هدي الأنبياء هي:"ما كان فعلا يكون معه النّاس أقرب إلى الصلاح و أبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرّسول ولا نزل به الوحي" (10) فوسيلة على هذه الدرجة من الخطورة ينبغي أن يُعاد لها الاعتبار و أن تُحظى بالأولوية إذا ما أردنا تحرير الغابة من هيمنة الذئاب وجعلها واحة أمن وسلام للتعايش السّلمي بين المواطنين من كل دين و ملّة. "ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (11)
كما أن العمل على توفير الأسباب التّي تسمح لكل مواطن يحمل داخله بذرة خير أو عبقرية أو موهبة ولو كانت جُزئية أن يُعبر عنها و يُفجرها علما و فكرا وحضارة وفنّا و أدبا هي واجب، خدمة للناس وللكون. وحتى يؤدى الواحد منّا واجباته بهمة عالية و تفان فهو مُحتاج إلى أن يطمئن على أهله و نفسه عرضه ودينه. إنّ ما يُميز الإنسان عن غيره هو أنه كائن حرّ، والحرّية هي طريقه للفاعليّة و التألق في خدمة الصالح العام للمجتمع و الشعب و النّاس جميعا.إنّ هذا العالم، الذي أرادت الذّئاب أن تجعل منه مُجرد غابة تعبث فيها كيفما تشاء، كُلّه وطني، أينما انتُهكت حقوق الإنسان فيه و أهدرت كرامته شعرت بالألم و المرارة.وأنّ ما يُضاعف ألمي و يُعمق جُرحي هو أنّ مُعظم زعمائنا السياسيين و الروحانيين لا يعون و لا يُقدرون حجم ما نحن فيه من مخاطر وإذا ما وعُوا فإنهم لا يتمردون...
وما يُغضبُني أيضا أن مُعارضاتنا السياسية و الفكرية ينتقدون لأنهم لا يحكمون ولكنهم أيضا لا يتجرؤون ولا يُبادرون ولا يكادون يتميزون عمّا ينتقدون.....
يا حكامنا و يا حكماءنا و زعماءنا و يا مُعارضينا، رسميين و غير رسميين، هل من صحوة ضمير تُعيد لنا رُشدنا ؟ لنقاوم معا ،جنبا إلى جنب ما يُسمى "بالعولمة"و خاصة منها الاقتصادية التي ما هي في الحقيقة وإن اختلفت المسميات إلا الوريث الطبيعي و بأ قل الأثمان للاستعمار القديم و إلاّ فإنّ بوش وشارون و من كان على دينهما سيحطموننا و يذبحون أبناءنا و يستحيون نساءنا و يستبيحون دماءنا و أعراضنا،نستوي في ذلك حكامّا و محكومين.إن مُقاومة هؤلاء الذّين يكذبون علينا و يُلحون علينا أن نُلغ عقولنا لنعيش فقط ببطوننا و غرائزنا هي ضرورة قبل أن تكون واجبا و حقّا مشروعا.
إنّ التّصدي لهؤلاء الذين يريدون أن يفرضوا علينا بقوة المليارات و الصواريخ العابرة للقارات تاريخا كاذبا و مُستقبلا "ديمقراطيا" وهميا لا أساس له في الحقيقة إلا الفراغ والدمار الشامل والموت البطيء والمدروس هو شرف لكل مُقاوم وعلامة انتصار لا تُخطئ. إنّ مُقاومة هؤلاء في الدّاخل والخارج هي واجب ديني و إنساني مهما كانت الإمكانيات مُتواضعة ولو عن طريق الكلمة الصادقة أو نُكران الضمير الحي وذلك أضعف الإيمان. و من النضال أيضا أن لا نكُفّ عن إعلان حقائقنا ولو كانت جُزئية ومُضطربة من سوء ما نحن فيه من ضغط و من سوء ما نُعانيه من ظُلم و حيف. علينا جميعا أن نصبر على هذه الحال ولا نستسلم إلى أن يأتي الله بالفرج ونبني مكانا آمنا نعشق فيه الجمال والفضيلة والخير والعدل والحرية و نشعر فيه بالأمن و الأمان، وعند ذلك نُعيد ترتيب أوضاعنا المُبعثرة و أفكارنا المُشتتة ونُعلن حقائقنا كاملة غير منقوصة وقد نُساهم أيضا في بناء مشروع السّلام العادل.

فيا أحرار العالم في كل مكان ومن كل ملّة و دين لنتعاون على تحرير جزء مهما كان صغيرا من هذه الغابة المُوحشة نتخذه مُنطلقا لتحرير ما تبقى من الغابة ونزرعه قمحا و شعيرا و نغرسه تينا و زيتونا و رمّانا ونخلا و عنبا. و من الأفضل أيضا أن لا ننسى زرع شيء من الورود والأزهار، كالقرنفل و الياسمين، فنستبد ل رائحة الذئاب و عُواءها برائحة الأزهار و زقزقة العصافير وهي تُغني للحياة فنُغني معها أُنشودة الحياة الخالدة:"إذا الشّعب يوما أراد الحياة.....فلا بُدّ أن يستجيب القدر" (12)
إن ولادة الإنسان السّوي تعني موت هذه الذئاب المُنصبة علينا بقوة الحديد والنار أو على الأقل و في أسوإ الحالات تراجعها إلى حجمها الطبيعي الذّي من أجله خُلقت لا تتجاوزه قيد أنملة.
يا شرفاء العالم، إن النجاة من "زمن العولمة"هو العمل الجاد والمُشترك على تأسيس "عالمية إنسانية"
جديدة، قوامها الرّحمة والتعارف والتعاون والتكامل و بإيجاز تحقيق إنسانية الإنسان. وذلك هو الخيار الذّي سيُضفي على حياتنا القصيرة معنى وكرامة: "يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "(13)
ليعذرني قارئ هذه الصفحات على ما تعكسه من قتامة وهموم ولكن ليعلم أن هذه الخواطر ولئن كانت
مُوغلة في التشاؤم إلاّ أنها لم تبن على فراغ وإنّما أملتها أحداث جسام عاشها العالم بصفة عامة و العالم الإسلامي بصفة خاصة ومنها نذكُر منها ما سمي بنكسة 5حوان 1967 وحرب الخليج الأولى ثمّ الثانية و غزو لبنان و مذبحة صبرا وشاتيلا وأحداث الجزائر و أحداث 11 سبتمر 2004 واحتلال أفغانستان والعراق من طرف الإدارة الأمريكية وأحلافها. وهي كُلها أحداث فرضتها أياد استعمارية وعُنصرية لا هم لها إلاّ ألتسلط و الهيمنة على الشعوب المُستضعفة. فإلى متى سنظل على هذه الحال ولا يكون ردّ الفعل في المستوى المطلوب.
إنّ هذا النص هو دعوة للانتباه واليقظة أولا وهو دعوة للبناء وإرادة الحياة وتهيئة الأسباب لزرع الأمل من جديد ثانيا.

باريس ليلة الإثنين22 مارس2004
المُوافق ل1صفر1425للهجرة.

مقال وحدث وتعليق



لقد كانت ليلة الاثنين من يوم 22مارس 2004 ليست كغيرها من الليالي، فقد انتابتني مشاعر غريبة و مُتناقضة وكأنّ شيئا مُريعا سيحدث. و بالفعل في الصباح الباكر فتحت "الجزيرة " لأسمع أخر الأخبار وإذا بالخبر الفاجعة والصاعقة يُعمق جُرحي الذّي لم أغمض جفني بسببه. في هذا الصباح، ولم يمض على انتهاءنا من كتابة مقال "غُربة الإنسان ومولد الذئاب..." إلاّ ثلاث ساعات ونصف، اغتالت قوات العدو الصهيوني بطائرات " الآباتشي" شيخ المُجاهدين أحمد ياسين وهو قعيد على كُرسيه بعد خروجه من المسجد إثر صلاة الفجر و في طريق عودته إلى بيته. و كانت هذه الجريمة النكراء تصديقا وتأكيدا لما ورد في المقال من قتامة و تشاؤم.لقد تجاوزت وحشية اسرائيل بزعامة المُجرم و السفاح شارون كل الحدود و الأعراف. لقد أراد مُجرم الحرب أن يُربك حركة المقاومة الباسلة ويشق صفوفها إلاّ أن الذّي حدث بفضل الله تعالى هو العكس تماما فكان رد الشعب الفلسطيني سريعا وحاسما وحضاريا سواء على المستوى السياسي و التنظيمي أو على المستوى التعبوي والمعنوي. و بذلك يكون الشيخ أحمد ياسين قد نجح في تأسيس حركة مقاومة عصرية لم يحسب العدو لها حسابا في حياته ونجح مرة ثانية عندما وحّد الشعب الفلسطيني باستشهاده، فكان دمه الزكي وقودا أجّج مُظاهرات التنديد الواضح و الحاسم بإرهاب الدولة الصهيونية من ناحية والدعم المطلق و اللا مشروط لحركة المقاومة لهذا الكيان العنصري والفاشي من ناحية ثانية. كما أن الرد على المستوى التنظيمي كان سريعا وفي المستوى المطلوب، فتعيين الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي (14) رئسا لحركة حماس في مدينة غزا خلفا للشيخ أحمد ياسين كان هو الرد الذّي بدد أوهام الصهاينة في شق صفوف الشعب الفلسطيني. كما أنّ استشهاد الشيخ، على المستوى المعنوي، في هذا الوقت وفي هذا المكان و في هذا العمر كان تزكية و تتويجا ربانيا لجهاده الطويل عن شرفه و عزة بلاده. كما أن استشهاد الشيخ كان بلا ريب إيذان عن ميلاد آلاف من المجاهدين الذّين سيلقنون العدو درسا لن ينساه. إن استشهاد الشيخ هو شهادة حية و مملموسة عمّا و رد في مقالنا من أفكار وخواطر حتى يعرف من لا يعرف أو من لا يريد أن يعرف أننا في الحقيقة لسنا متشائمين عندما نقول أن هذا العالم ومن فيه تريد أن تُهيمن عليه اسرائيل وتقوده، بدعم من الإدارة الأمريكية، إلى الدمار ونهاية التاريخ حسب زعمهم. إن مشروع العولمة هو في حقيقته مشروع أمريكي صهيوني بالأساس وهو مشروع محكوم عليه بالفشل مسبقا لأنه قائم على الباطل والباطل لا يدوم لأنه نشا ز وشذوذ و إخلال بسنن الله في الكون.
يا سيّدي، يا شيخ المجاهدين و يا إمام الصامدين، لقد أديت ما عليك وفديت دينك و بلادك بأغلى ما تملك، بنفسك التّي بين جنبيك، فأكرمك الله بالشهادة، وعشت سعيدا رغم الاحتلال و مت شهيدا بسبب الاحتلال، و حُشرت بإذنه تعالى مع الأنبياء و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا. فهنيئا لك بمقامك الذي أنت فيه، و إنّا لله و إنّا إليه لراجعون.
صباح يوم الإثنين 2004.03.22
أ. الأستاذ: مصطفى عبدالله الونيسي
ounissimustapha@hotmail.fr
الهوامش

1) من هؤلاء ،نذكر "فوكوياما"
2) سورة ال عمران165
3) سورة الرعد: اية11
4) سورة التين: اية 4 و5
5) سورة الفرقان: اية 44
6) رواه أحمد
7) العقور هو ما هاجم الإنسان كالنمر و الأسد
8) متفق عليه
9) سورة الحديد: اية 35
10) ابن القيّم: الطرق الحكمية
11) قاعدة أصولية كلية
12) من ديوان لأبي القاسم الشّابي
13) سورة الحجرات :اية 13
14) استشهد هو بدوره بعد مدة وجيزة