بسم الله الرحمن الرحيم
أوصيك يا ولدي
مصطفى عبدالله الونيسي/باريس ounissimustapha@hotmail.com
يا ولدي: ما أتعس الإنسان و ما أجحده عندما ينسى حقيقته، من أي شيء خلقه و أماته ربّه ُ و أقبره ثم متى شاء بعثه !
يقول الله تعالى : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثمّ رددناه أسفل سافلين إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون ) التين الآيات4/5/6
و يقول سبحانه :( كلآ ّ إنّ الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى ، إنّ إلى ربّك الرُجعى ) العلق الآيات 6/7/8
أوصيك يا ولدي :لا تسعى أن تكون جبّارا لأن الجبروت لن تطيقه و لن تصبر على تبعاته وتكاليفه و ستكون أول من يكتوي بناره إن فعلت عاجلا أو آجلا ، لأنّ الجبار الحقيقي هو الله ، فاستحي منه و لا تنازعه حقه سبحانه كما يفعل الكثير من الجهلة .
يا و لدي لا تنسى فضل من سبقوك و حقهم عليك و ادع لهم بالرحمة و المغفرة و لا تحقرهم مهما اختلفوا معك وأزعجوك و أحرجوك إلاّ إذا ظلموا و اعتدوا وانتهكوا الحرمات ( و الذ ّين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ....)الحشر آية 10
إيّاك يا ولدي أن تُعادي أحدا خالفك الرّأي ، و لا تنصب نفسك وصيّا على النّاس إلاّ بوجه حق ، و لا تؤُم قوما هم لك كارهون.
و لا تصدق أحدا، فردا كان أو جماعة، ادّعى أمرا إلاّ إذا جربته و خبرته و رأيته قد وافقت أقواله أفعاله.
يا ولدي، عليك بالتجارب الإنسانية، انظر فيها مليئا، وادرسها بعمق، وقلّبها على كل الوجوه تظفر فيها بحكم كثيرة و دروس مفيدة، فاعتبر بها و استفد منها و إيّاك
أن تُعيد نفس الأخطاء التي سقط فيها غيرك ما استعطت إلى ذلك سبيلا، تُوفر على نفسك وقتا كثيرا ومالا وفيرا و أملا في النجاح عريضا .
يا و لدي لك أن تعرف أن أباك صبر طويلا ، و تغرب دهرا مديدا ، وعاش الفقر و الحرمان و التهميش حتى مع الأنداد ، و قد لحقك نصيب وافر من ذلك و أنت لا تدري لماذا ، و لكن عزاؤنا جميعا أنّ أباك ما بدل و ما غيّر و لا استغنى على حساب المساكين رغم شدّة البلاء ومرارته .
يا ولدي : من حقك عليّ أن تعرف أن أباك أفنى شبابه و كهولته في خدمة الصحوة الإسلامية ، سائلينه سبحانه حُسن الختام ، فانخرط فيما يُسمى بالجماعة الإسلامية ، ثم الإتجاه الإسلامي و أخيرا في حركة النهضة ، فدفع الثمن باهضا على المستوى الخارجي وحتى الدّاخلي مع إخوانه و رفاق دربه، فعاش بينهم غريبا و هم لا يعلمون،ورغم ذلك بقي و فيا لهم و لحركته و للمشروع الإسلامي عموما ، و لكن اليوم الذي تجرأ فيه والدك على قول ما يراه حقا بعد هذا الصمت الطويل تطاول عليه بعض الصغار مُنصبين أنفسهم أوصياء على المشروع ناسين أو متناسين تضحيات و جهود من سبقهم يحسبون أنفسهم أنهم بذلك ٌ قد أحسنوا صُنعا ، و نحن نبرأ إلى الله من هذا السلوك ، و ليس هذا من أخلاقنا و لا من شيمنا .
يا و لدي : ما عرفت تنظيما آخر ، لا قبل تأسيس الحركة و لا بعدها ، و أنا صنيعة من صناعاتها ، و ما ادعيت يوما من الأيام أنني من المؤسسين أو حتى من الرعيل الأول لهذه الحركة ، كما يدّعي كثير من رفاق الدرب ذلك ،بمناسبة أو غير مناسبة ، و أنا لا أنكر عليهم ذلك بطبيعة الحال ، غير أن لكل واحد منّا طباعه التي شبّ عليها.
يا بُنيّ ، درست أربع سنوات في الكلية الزيتونية للشريعة و أصول الدين ، تخصص فقه و سياسة شرعية ، ثم التحقت بجامعة السربون الشهيرة في ظروف صعبة جدّا و درست سنتين تحصلت على إثرذلك على شهادة التعمق في البحث العلمي D.E.A ، بملاحظة ، و لم أتوقف يوما على القراءة رغم كثرة المشاغل و أنت أول من يشهد لي بأنّني قارىء نهم لا يشبع من القراءة وقد قلت لي ذلك مرارا و مع ذلك لم ادعي يوما أنني شيخ من مشايخ العلم ، لا من الحجم الكبير و لا المتوسط و لا حتى الصغير، أو داعية أو حتى طالب علم و أنت تعرف أنني أكره هذه الألقاب ، في حين أنّك ترى أشخاصا لا حظّ لهم من علم حقيقي يُعتد به و مع ذلك أصمّوا أذاننا بادعاءهم العلم و المعرفة ، فهم شيوخ كبار و دعاة لا يُشق لهم غبار . و هذا كله إن دل على شيء ، ياولدي، فإنما يدل على أن الحياة لا تقبل الفراغ ، فإذا تخلى أهل الإختصاص عن ممارسة اختصاصهم لسبب أو لآخر أخذ مكانهم بعض الهواة المتطفلين ليملؤوا الفراغ و يقوموا ببعض الواجب ، و قد يحسنون للإسلام بعض الشيء أن وفقهم الله ، كما أنهم قد يسيئون إليه من حيث يعلمون أولا يعلمون أحيانا.
يا ولدي : لكي تعرف كيف تتعامل مع النفوس البشرية المتقلبة أحكي لك هذه الحكاية فعساك تستفيد منها عندما تصبح رجلا مسؤولا : لقد انتهزت فرحة العيد لأفاتح أحد إخواني من المسؤولين الحزبيين الكبار عندنا ، وهو من الذين أكن لهم احتراما ،غير أنني أعرف أنه كان غاضبا عليّ بسبب مواقفي و خاصة منها الموقف الأخير المتعلق بقضية العودة إلى البلاد من عدمها و ما ترتب عن ذلك من أفعال و ردود أفعال و مضاعفات ، فحاولت أن ألاطفه و أن ألف حوله ، يمينا و شمالا ، ولاحقته عَلَيَّ أظفر منه ببسمة و لو صفراء في يوم عيد ، و لكن الرّجل تفلت . ولم أستسلم لذلك، بل أصررت على مراودته وقاربت و سددت ثم وثبت عليه وثبة الأخ الحنون على أخيه وأعترف أنني في هذه المرة لم أترك له فرصة للتفلت و عانقته و عايدته وتمنيت له قبول الصيام و القيام و صالح الأعمال،ثم و ضحت له رغبتي في المصارحة و الحديث معه حتى لا يغضب أحدنا على أحد من دون سبب معقول ، و لكن الرجل ، سامحه الله ، أجابني بكل برودة دم و استعلاء بأنه لا يرى ضرورة لذلك . فتأسفت لذلك طبعا، و لكني أشفقت عليه في نفس الوقت لأن صاحبي لم يستطع أن يفرق بين الحركة التي هي مشروعنا المشترك و الذي لا ينبغي لأحد منّا أن يزايد به على الآخر ، و بين العلاقات الشخصية البحتة التي ينبغي علينا أن نصونها و خاصة في مثل هذه الأيام المباركة .
أوصيك يا ولدي كن شجاعا و لا تخش إلاّ الله ، فعش عزيزا او مُت و انت كريم و شهيد ، فقاوم الإستبداد و المستبدين و لو كانوا من أهلك و أقرب النّاس إليك ، لأن الإستبداد كلّ ٌ لا يتجزأ ، فوجهه قبيح و رائحته نتنة و معايشته سبب لغضب الرحمن الواحد الديّان ، سواء مارسه حاكم او محكوم أو رئيس حزب أو شيخ طريقة أو رئيس ناد من النوادي، ...... و سواء مارسه فرد أو جماعة .
يا و لدي : لا تغرنّك المظاهر و لا الشعارات، و لا تحسبن أن كل من قال أنه متدين أو إسلامي هو بالضرورة ملاك و مثال يحتذى، و ليكن مقياسك في معرفة النّاس ، كما قلت لك ، الصدق في القول و العمل ، و الإلتزام بالمبادىء والأخلاق في الواقع اليومي المعاش ، فالدين مقصده الأساسي المعاملات الحسنة و تمام مكارم الأخلاق، فنحن قوم نقول ما نفعل و نفعل ما نقول وإلاّ فما الفرق بيننا والآخرين الذين لا يُعيرون للأخلاق دورا و لا قيمة في حياة النّاس .
يا ولدي : أرجوك أن لا تحقر أنسانا ، مسلما كان أو غير مسلم ، رجلا كان أو امرأة، و اعلم أنّه من تواضع للنّاس أحبّه النّاس ، و من تواضع لله رفعه الله ، و تذكر أن ساعة المرء تأتي بغتة دون سابق إعلام ، فاستعد لذلك و أكثر من ذكر هادم الملذات ، و مفرق الجماعات و ليكن شعارك الذي تلتزم به و تربي عليه أبناءك قول الله تعالى : (يا بني أقم الصلاة و آمر بالمعروف و آنه عن المنكر و اصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور ، و لا تُصعر خدّك للنّاس و لا تمش في الأرض مرحا إنّ الله لا يحب كل مختال فخور . ) لقمان/ 17/18. فالكبر داء عُضال ، وإياك ثم إياك أن تقترب منه أو تحدثك نفسك به ، و النبي صلى الله عليه و سلم قد أرشدنا إلى ذلك و حذرنا منه عندما قال (ص) ( لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) .
يا ولدي أوصيك أن لا تترك الأمور تتفاقم و تتراكم حتى تتعفن ، فيصعب الإصلاح عندئذ و التعافي ، وعليك أن تُعالج الأمور من البداية ، و إذا استطعت أن تستشرف الأحداث و تستبقها في عملية وقائية فآفعل، و عليك أن تراجع نفسك إن استطعت بالليل و النهار و تستغفر الله لذنبك في اليوم مرات عديدة فذلك أفضل لك و أنجى .
يا ولدي : كن فاعلا و بادر بالأعمال الصالحات و لا تنتظر الآخرين حتى يبادروا ، لأنهم قد لا يبادروا فتضيع على الأمة فُرصا غالية و ثمينة للإصلاح فتندم على ذلك
في وقت لا ينفع فيه الندم .
يا و لدي : تواصل مع النّاس و انفتح عليهم و كن تلقائيا معهم و عاشرهم بالمعروف و عاملهم بالتي هي أحسن .
و أوصيك أيضا أن تدون كل ما تنوي قوله أو القيام به ، فذلك أوضح و أدوم ، و لا تخجل أو تتردد في التعريف بنفسك و ما تنوي القيام به على أوسع نطاق ممكن ، فإنّ التواصل الجميل مع الآخرين و حُسن العرض هو نصف العمل أو أكثر و خاصة في هذا الزمان ، و لا تعتقدنّ أن ذلك من الغرور أو التكبر ما دام العمل خالصا لوجهه الكريم سبحانه .
يا ولدي : أوصيك أن لا تندم على شيء فعلته أبدا ما دمت مخلصا لله و صادقا مع نفسك.
أمّا إذا أردت النجاح في تدبير شؤونك حتى الدنيوية منها ، فعليك بالتوكل على الله ، و لا تفعل إلاّ ما تحبه عبر تخطيط واضح و متدرج،ولا ترهق نفسك بما لا تطيق ، و لك أن تكون طموحا بشرط أن لا تتعسف على الواقع ، فتقرأه و ما يحتوي عليه من موازين قوى قراءة صحيحة فتبني على ضوء ذلك أهدافك ، و عليك بالمداومة و الإستمرار و المراكمة في الإتجاه الذي تريد أن تصل إليه. و عليك بخدمة النّاس و العمل على سعادتهم بكل محبة و إخلاص ، فبقدر ما تخدمهم يخدمونك ، و بقدر ما تسعى في مصلحتهم يسعون في مصلحتك . هذه بعض شروط النجاح ، و لك أن تجرب ذلك فستقف على صدق ما أقول بنفسك.
يا ولدي : تزيّن بالإيمان، فإنه أصل كل سعادة ، وبالحلم ، فإنّه راحة بال ، فلا تحقد على أحد، و بالعلم ، فإنّه فضيلة و نور في الدنيا و الآخرة ، و لتعلم أن فضل العالم على العابد كفضل القمر المنير على سائر الكواكب ، و أنّ الله و ملائكته وأهل السموات و الأرض حتى النّملة في جحرها والحوت في الماء ليُصلون على معلم النّاس الخير. و عليك بالجماعة ، و بقدر ما تكون الجماعة أكثر عدد ، فهي أفضل ، فألزم جماعة المسلمين واصطبر عليها خير لك من الفرقة ، فهي عذاب وذهاب للدِّين و العزّة . و إيّاك أن تُساوم في حريتك مهما كان الثمن ، فحريتك هي رمز كرامتك و إذا انتهكت حريتك انتهكت كرامتك ، و لم تعد شيئا مذكورا.
يا و لدي : هذه بعض الوصايا أنصحك بها، هي من وحي التجربة و المعاناة، قد لا تجدها و لا تقرأها في كتاب أو كراس أو مخطوط فخُذها عنّي ، أمّا أصول الإيمان والثابت من الدّين و المعلوم منه بالضرورة ، فخُذها من القرآن و الصحيح من السنة . عليك بالقرآن ، أيها الولد الحبيب، اتخذه لك رفيقا ومؤنسا و صاحبا و مُرشدا و معلما و مربيا و مرجعا وملاذا و دستورا ودليلا تهتدي به في الظلمات و تسير به بين النّاس ، تفز بالسعادة في الدنيا و لأجر الآخرة خير و أبقى .
إليك يا ولدي هذه النصائح من أب محب ، و قد لا تفهم الكثير منها لأنك لتزال صغيرا ، و قد تتجاوز براءتك ، و لكن غدا ، إن شاء الله ، سيشتد عودك و ينضج فكرك ، وأنت تعرف يا ولدي و لو كنت صغيرا أنّ علاقتي بك محال أن تقوم على المغالطة و بيع الأوهام ، فهذا شأن أصحاب المصالح الظرفية وأهل كثير من الأحزاب الدنيوية، و إنّما هي قائمة على الإخلاص و الوفاء والمحبة ، و المحب لمن أحب دليل و ناصح أمين .
إليك و إلى كل الأبناء و البنات من أبناء المسلمين في كل مكان و في كل زمان أقدم هذه النصائح ، فكلكم أبنائي و بناتي ، عليكم أغار و أدافع و أنافح ، و لا أتمنى لكم إلاّ الهداية الربانية و الفلاح و النجاح في الدينا و الآخرة و خاصة إذا ماكنتم صالحين ولأبائكم بارّين وإلى بلادكم نافعين .
و لك يا ولدي أن تدعو الله بهذا الدعاء : اللهم إني أعوذ بك من أن أزِّل أو أ ُزَل أو أظلِم أو أ ُظلََم أو أضِّل أو أ ُضل أو أ َجهَلَ أو يُجهَل عليَّ . و لك أن تدعو الله أيضا : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن و الجبن و البخل و غلبة الدّين وقهر الرجال . و غير ذلك من الأدعية المأثورة و غير المأثورة ، فالدعاء مخ العبادة و هو سلاح المؤمن و خاصة عند الشدائد و في المحن . أسال أن يهديك لما يحبه و يرضاه و يصلح حالك في الدنيا و الآخرة ، إنّه سميع مجيب .
مصطفى عبدالله الونيسي/ باريس
الإثنين 3شوال1428هـ الموافق 15أكتوبر 2007م
ounissimustapha@hotmail.com
dimanche 28 février 2010
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
مـلاحظة هامة ينبغي أخذها بالإعتبار: هذا المقال كتبناه سنة 2007 في سياق تاريخي خاص و مع ذلك يبقى مفيدا،ولكن لو تُعاد صياغته بما يتماشى مع المرحلة الراهنة لتعم الفائدة أكثر، وهو ما سنقوم به إن شاء الله في مرحلة قادمة
RépondreSupprimer